مولد صلاح الدين ونشأنه
قد ذكر المؤرخون أن جد الأسرة الأيوبية هو <شادي او شاذي>وله ولدان هما نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه وكان من سكان بلدة (دوين)-هكذا ضبطها ياقوتفي معجم البلدان وعرفها /بأنها بلدة من نواحي أران في اَخر حدود أذربيجانبقرب تفليس منها ملوك الشام <<بنو أيوب >>كما ضبطها ابن خلكان في وفيات الأعيان-ج3ص 470
وكلمة الأيوبي جاءت نسبتها إلى نجم الدين أيوب -كما أن كلمة أسد الدين شيركوه :هي كلمة فارسية تتكون من لفظتين شير=ومعناها أسد وكوه=ومعناها جبل فالكلمة في جملتها تعني أسد الجبل
أقطع السلطان مسعود بن ملكشاه بهروز ولاية تكريت بصفة التمليك فأناب بهروز صديقه شادي في أمور المقاطعة لما كان بينهما من ود وصداقة
وحينما توفي شادي ودفن في تكريت جعل بهروز نجم الدين أيوب مستحفظاً لقلعة تكريت لأنه أبر سناً والأرجح عقلاً وبذلك أصبح نجم الدين أيوب حكماً لقلعة تكريت قبيل سنة525هجري 1130ميلادي وقد أحسن التصرف بها
وبعد حوالي سنتين من تولي نجم الدين لقلعة تكريت اضربت الأمور فيها وذلك لأن أتابك الموصل <<عماد الدين زنكي>>قد ساند مسعود بن ملك شاه السلجوقي بجيش كبير قدم به من بغداد ضد الخليفة العباسي المسترشد بالله سنة 526هجري/1131ميلادي وذلك من أجل إنتزاع السلطنة منه بالقوة ولكنه هزم في هذه المعركة وفر عائداً من الموصل عن طريق تكريت مع فلول جيشه المهزوم وهي في حالة مروعة من اليأس والإعياء والجوع فالتجأوا إلى نجم الدين أيوب ووضعوا مصيرهم بين يديه إن شاء أبقى على حياتهم وساعدهم على متابعة طريق العودة إلى بلدهم وإن شاء أسرهم وقضى عليهم فاَثر نجم الدين المكرمة والمعروف واَواهم ومونهم وساعدهم على عبور نهر دجلة بما أعطاهم من قوارب وما وفر لهم من سبل النجاة
بالرغم مما في ذلك من تحد للخليفة وتعرض للخطر إن تلك المساعدات التي قدمها نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين إلى عماد الدين زنكي
ونجا بجيشه وعاد سالماً إلى الموصل أغضبت بهروز واعتبرها عصياناً على الخلافة في بغداد وقد صادف أن قام أسد الدين شيركوه بقتل أحد قادة القلعة وذلك من أجل إمرأةجاءت تشكو من أحد القادة الذي اَذاها في شرفها واعتدى عليها فما كان من أسد الدين إلى أن إنتصر للشرف والمروءة وقتل ذلك القائدوهنا إزداد غضب بهروز وخاصة حين علم أن المدينة ثائرة على الحاكم وأخيه فأرسل إلى نجم الدين يأمره بتسليم القلعة إلى عامل اَخر والخروج مع أهله من تكريت
ويقول الأستاذ قدري قلعجي ص118:<<وكان نجم الدين أيوب قد ألف القلعة وصارت أشبه بوطن له فعظم عليه الخروج منها شريداً طريداً وبينما هو يطيل التفكير في أمره ورسول بهروز لم يبارح مجلسه بعد إذا برسول اَخر يقبل من بيته ويبلغه بأن زوجته
تبشره بأنها قد وضعت غلاماً اسمته (كما اتفقنا):يوسف فتشاءم الرجل وتطير بالوليد الصغير ثم مالبث أن التقفت إلى أخيه وقال له :إني خارج منذ الآن متستراً بجنح الظلام كي لا أشمت بي الناس في وضح النهار .ونهض فنهض أخوه وسار فتبعه وما هي إلى ساعة حتى كنا خارج القلعة مع نسائهما وأولادهما وشيخ نصراني من بغداد كان يكتب لهما وأخذوا يضربون على غير هدى في جوف الليل
ظلت القلعة القافلة الصغيرة تتابع السرى في ليلة داجية من شتاء سنة 532هجري/1137ملادي وفي برية مقفرة ليس فيها أي أسر لإنسان أو حيوان أو نبات
وقد بلغت هذه القافلة بقعة من الأرض لايميزها وسط تلك القفار سوى عدد من أشجارالنخيل وكان الصبح يوشك أن يطلع وأخذت الأشياء تتميز عن بعضها فوقف نجم الدين يفكر وإلى جانبه أخوه وإذا بالوليد ينفجر باكياً على يدي أمه فازداد نجم الدين حنقاً وتطيراً وهم في ثورة غضب أن يبطش به ليريح نفسه من عبئه ويريحه من حياة ليس من يدري أين تقضي بها هذه البداية المخيفة فصرخت الأم باكية متوسلة وهرع نحوه أخوه مهدئاً من روعه وأمسك كاتبه النصراني بيده وهو يقول له بصوت متضرع شفيق
يا مولاي قد رأيت ما حدث عندك من الطيرة والتشاؤم بهذا الصبي واي شيىء له من الذنب؟ وبم استحق ذلك منه؟وهو لاينفع ولايضر ولا يغني شيئاً وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله سبحانه وقدر ما يدريك أن هذا الطفل يكون ملكاً عظيم الصيت جليل المقدار ولعل الله جاعل له شأناً فاستبقه فهو طفل ليس له ذنب ولا يعرف ما أنت فيه من الكدر والغم
فأجاب الأب الحانق :<<واي شأن يكون له؟ألا ترى بأنه نزير شؤم وبؤس؟...ألا ترى في أي يوم جاء ...فما عسى ينتظره من الحياة وما عساني أنتظر منه؟
فقال كاتبه <<رويدك يانجم...!أشفق عليه وعلى نفسك فلعل فيه الخير وأنتم لاتعلمون
وبينما نجم الدين أيوب حائراً لايدري بأي إتجاه يسير : إلى اليمين أو الى اليسار أو يتجه نحو الشمال أو يضرب في البادية نحو الجنوب وإذا بشعاع أمل أضاء ظلمة حيرته وبدد يأسه فقال في نفسه:لماذا لانذهب إلى عماد الدين زنكي؟ وقد جائنا هذا الرجل منذ مدة في ليلة تشبه هذه اليلة بجوها العاصف وظلمتها الداجية وفي حالة تشبه حالتنا الآن بقلقها العنيف وحيرتها الطاغية وكان قد سار بجيشه لمظاهرة السلطان مسعود على الخليفة العباسي المسترشد بالله فانهزم في المعركة التي خاضها وارتد راجعاً إلى الموصل ماراً بتكريت حيث فتحنا له أبواب القلعة وقدمنا له القوارب لينجو هو وجيشه من بطش جيش الخليفة الذي حاصره قرب القلعة ولا ر يب أن عماد الدين يذكر تلك اليد التي أعانته ويعرف تلك الصنيعة وهكذا اتجهت تلك القافلة نحو الموصل
وقد صدق ظن نجم الدين ايوب فما كان يبلغ وأخوه الموصل حتى رحب بهما عماد الدين زنكي ترحيباً عظيماً وأكرم وفادتهما وأجرى عليهما المنح والعطايا وكافأهما على ما فعلا معه من الجميل عند تكريت واقطعهما أرضاً ليعيشا عنده معززين مكرمين
عاش نجم الدين وأخوه ومعهما المولود صلاح الدين في رعاية عماد الدين بأحسن مظاهر العز والأكرام وأسند إليهما أعمال الجيش فخدما عماد الدين وأخلصا له الخدمة وأحرز إنتصارات عديدة زادت في حبه لهما وتقديره إياهما فلما سقطت بعلبك في يده سنة 534هجري/1139ملادي عهد بإدارتهما إلى نجم الدين ولا شك أن هذا الاختيار
هو برهان قاطع على ثقة عماد الدين بنجم الدين أيوب وحسن الأعتماد عليه
لقد كان عمر صلاح الدين سنتين عندما تولى والده حكم بعلبك حيث قضى فيها أجمل سنين طفولته وأسعدها ومكث فيها مع أسرته حتى سن التاسعة حيث قتل عماد الدين زكي سنة 541هجري/1146ميلادي وتولى إبنه نور الدين الحكم مكانه وعلى أثر ذلك أرسل حاكم دمشق مجير الدين أبقى إلى نجم الدين أيوب يطلب منه تسليم بعلبك وهنا أدرك نجم الدين أن هذه المدينة لابد أن تسقط في أيدي الدمشقيين لضعف حاميتها فسلمهم إياها مقابل تعهدهم بإقطاعه عشر قرى في جوار دمشق وانتقل مع أسرته إلى دمشق تاركاً بعلبك والتحق بخدمة أيبك أكبر أولاد توغتكين ومازال هذا بقربه منه ويجازيه على خدماته حتى جعله قائد قادة الشام
أما أسد الدين شيركوه فقد إتصل بخدمة صاحب حلب نور الدين محمود زنكي واصبح من أخص أصحابه ومقدماً على سائر أمرائه لما عرف عن شهامته وشجاعته ولم يزل حاله يكبر عنده إلى أن أقطعه مدينتي حمص والرحبة وأسند إليه قيادة الجند
وهكذا أصبح كل من نجم الدين أيوب قائداً معززاً مكرماً على الأمراء في دمشق كما أصبح أسد الدين قائداً على الأمراء في حلب
ولما توفي معين الدين أنر القيم القيم بتدبير مملكة دمشق سنة 544هجري/1149ميلادي أصبح نجم الدين أيوب صاحب الكلمة فيها لأن حاكمها مجيرالدين أبق كان ضعيفاً
قبل النفوز يستنجد حيناً بالصليبيين وحيناً أخر يطمعهم في الاستلاء عليها فخاف نور الدين من سقوط دمشق في أيدي الصليبيين فوجه إليه في أواخر سنة 549هجري/1154ميلادي جيشاً بقيادة أسد الدين شيركوه وحاصرها
ويقول الأستاذ قلعجي (ص121):ووقف أخوه نجم الدين أيوب على رأس جيش توغتكين مدافعاً عنها وحار الأخوان فيما يصنعان وكانت تساور نجم الدين عواطف قوية متضاربة فهو لايريد أن يحارب أخاه ويخشى أن يصيبه من هذه الحرب سوء ثم إن الجيش الذي يقوده أخوه هو جيش نورالدين بن عماد الدين زنكي الذي أحسن إليه لما هاجر من تكريت وأكرم مثواه وهو إلى ذلك على يقين من أن جيش دمشق أضعف من أن يثبت في وجه المهاجم إلى النهاية
مالبث أن عمد إلى مفاوضة أخيه على إبلرام الصلح بينهما واستمرت هذه المفاوضات ستة أيام انتهت بتسليم دمشق وانتقالها إلى يد أقوى أمير في سوريا اَنذاك وذلك سنة549هجري/1154ميلادي
فما كان من نور الدين زنكي إلا أن كافأ نجم الدين على هذا المسعى الحسن وعينه حاكماً على دمشق وقربه من مجلسه حتى أصبح من أخص المقربين إليه ونال عنده ما لم ينله أي شخص اَخر
فقد روى إبن واصل عن ذلك فقال <<كان نور الدين إذا جلس لايجلس أحد إلا بإذن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي رحمه الله وأما من عداه كأسد الدين شيركوه ومجد الدين إبن الداية وغيرهما فإنهما كانوا يقفون بين يديه إلى أن يتقدم إليهم بالقعود...وكان مجلسه لا يذكر فيه إلا العلم والدين وأحوال الصالحين والمشورة في أمر الجهاد وقصد بلاعدو
ظهور شخصية صلاح الدين
*************************************************
أما صلاح الدين فقد قضى في دمشق فترة تعد من أفضل أيام حياته حيث ظهرت شخصيته الفذة فكان محل إحترام وتقدير ومكانة رفيعة وقد ظهر أمام الجميع بمظهر الشاب الهادىء المهذب المتدين المتقد غيرة الإسلام والمسلمين بما طبع في نفسه من أخلاق والده وشيم نور الدين
وقد أسندت إليه في عهد نور الدين رئاسة شرطة دمشق وقد قام بهذا المنصب أحسن قيام واستطاع أن يطهر دمشق من عبس اللصوص ومن شر المفسدين فأعاد الأمن والأستقرار إلى ربوع الشام وباتت الناس في مأمن على نفوسهم وأموالهم وأخذوا ينعمون بالحياة الهادئة الكريمة المطمئنة ...وقد عبر الشاعر حسان بن نمير المعروف <<بعرقلة>>الدمشقي عن فرحته بتولي صلاح الدين يوسف رئاسة الشرطة في بلده حيث قال:ه
<<رويدكم يالصوص الشام فإني لكم ناصح في المقال
أتاكم سمي النبي الكريم يوسف رب الحجا والجمال
فذاك يقطع ايدي النساء وهذا يقطع أيدي الرجال...>>ه
وقد نشأ صلاح الدين في السنين الأولى من طفولته وفي العقد الثاني والثالث من شبابه علي الفضائل الكريمة والخصال الحميدة واكتسب من مجالسته لأمراء
ومن مصاحبته للقادة العادات الأصيلة والمهارة الحربية والغير إسلامية والشجاعة المادية والأدبية
وبما أنه قد قضى طفولته الأولى في بعلبك كما مر معنا فقد كان من الطبيعي أن يتردد على مكاتب العلم والمعرفة ليتعلم منها مهارة القراءة والكتابة والصرف والنحو ويحفظ القراَن الكريم
يقول صاحب كتاب طبقات الشافعية:ه
<<وسمع صلاح الدين الحديث من الحافظ أبي طاهر السلفي وأبي طاهر بن عوف والشيخ قطب الدين النيسابوري وعبدالله بن بري النحوي وجماعة >>واستطرد يقول :<<وكان صلاح الدين فقيهاً يقال <<إنه كان يحفظ القراَن الكريم والتنبيه في الفقه والحماسة في الشعر>>ه
والذي أجمع عليه المؤرخون أن العلماء كانوا يفدون إلى دمشق أيام نور الدين من الشرق والغرب من سمرقند ومن قرطبة ليعلموا ويتعلموا في مساجدها ومدارسها وقد إستمع صلاح الدين إلى أكثرهم وكان يحضرمجالس الأدب والشعر والظرف وحلقات جامع الأموي يستمع إلى المحاضرات (عبدالله بن أبي عصرون)الذي أحضره نور الدين وابتنى له مدارس في دمشق وأمهات مدن الشام ليدرس فيها وينشر العلم في البلاد وقد بلغ هذا العالم من المكانة والمنزلة أنه وصل إلى مركز القاضي قضاة الجزيرة وقد تحدثت التاريخ عن إخلاص صلاح الدين لهذا الشيخ بأن قربه من مجلسه عندما فقد بصره وجعله من أخص خواصه
كان صلاح الدين يهوى التغني بالطبيعة فتراه في مغاني فيحاء بساتينها بين بعلبك ودمشق متمتعاً برغد العيش قاصداً فلواتها وسهولها الممتدة حتى تخوم البادية العربية حيث مرن على ركوب الخير ولعب الكرة فقد تعلم الفروسية وأحسن الرمي وبرع في الصيد وتدرب على الأعمال الحربية وأتقن الفنون العسكرية حتى اكتملت له تلك الشخصية الفذة وثبتت رجولته وتوافرت فيه الصفات العربية الفاضلة :من شجاعة وشهامة ونبل ومروءة وتسامح وفداء وإقدام وحزم وتمسك بالرسالة الأسلامية والسعي لنشرها...ه
وعرف عنه أنه عشق دمشق عشقًا شديدًا، وتلقى علومه فيها، وبرع في دراساته، حتى قال عنه بعض معاصريه أنه كان عالمًا بالهندسة الإقليدية والرياضيات المجسطية وعلوم الحساب والشريعة الإسلامية، وتنص بعض المصادر أن صلاح الدين كان أكثر شغفًا بالعلوم الدينية والفقه الإسلامي من العلوم العسكرية خلال أيام دراسته. وبالإضافة إلى ذلك، كان صلاح الدين ملمًا بعلم الأنساب والسير الذاتية وتاريخ العرب والشعر، حيث حفظ ديوان الحماسة لأبي تمام عن ظهر قلب، أيضًا أحب الخيول العربية المطهمة، وعرف أنقى سلالاتها دمًا.
أما إبن شداد الذي رافق صلاح الدين فهو يجمل حياته في هذه الحقبة بقوله:<<واتفق لوالده الأنتقال إلى الشام (بعد أن كان حاكماً لبعلبك)وقد خدم والده وتربى تحت حجره وارتضع ثدي محاسن أخلاقه حتى بدت منه إمارات السعادة ولاحت عليه لوائح التقدم والسيادة فقدمه الملك العادل نور الدين زنكي رحمه الله تعالى وعول عليه ونظر إليه وقدمه وخصصه ولم يزل كلما تقدم قدماً تبدو منه أسباب تقضي تقديمه إلى ما هو أعلى منه
وكلمة الأيوبي جاءت نسبتها إلى نجم الدين أيوب -كما أن كلمة أسد الدين شيركوه :هي كلمة فارسية تتكون من لفظتين شير=ومعناها أسد وكوه=ومعناها جبل فالكلمة في جملتها تعني أسد الجبل
أقطع السلطان مسعود بن ملكشاه بهروز ولاية تكريت بصفة التمليك فأناب بهروز صديقه شادي في أمور المقاطعة لما كان بينهما من ود وصداقة
وحينما توفي شادي ودفن في تكريت جعل بهروز نجم الدين أيوب مستحفظاً لقلعة تكريت لأنه أبر سناً والأرجح عقلاً وبذلك أصبح نجم الدين أيوب حكماً لقلعة تكريت قبيل سنة525هجري 1130ميلادي وقد أحسن التصرف بها
وبعد حوالي سنتين من تولي نجم الدين لقلعة تكريت اضربت الأمور فيها وذلك لأن أتابك الموصل <<عماد الدين زنكي>>قد ساند مسعود بن ملك شاه السلجوقي بجيش كبير قدم به من بغداد ضد الخليفة العباسي المسترشد بالله سنة 526هجري/1131ميلادي وذلك من أجل إنتزاع السلطنة منه بالقوة ولكنه هزم في هذه المعركة وفر عائداً من الموصل عن طريق تكريت مع فلول جيشه المهزوم وهي في حالة مروعة من اليأس والإعياء والجوع فالتجأوا إلى نجم الدين أيوب ووضعوا مصيرهم بين يديه إن شاء أبقى على حياتهم وساعدهم على متابعة طريق العودة إلى بلدهم وإن شاء أسرهم وقضى عليهم فاَثر نجم الدين المكرمة والمعروف واَواهم ومونهم وساعدهم على عبور نهر دجلة بما أعطاهم من قوارب وما وفر لهم من سبل النجاة
بالرغم مما في ذلك من تحد للخليفة وتعرض للخطر إن تلك المساعدات التي قدمها نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين إلى عماد الدين زنكي
ونجا بجيشه وعاد سالماً إلى الموصل أغضبت بهروز واعتبرها عصياناً على الخلافة في بغداد وقد صادف أن قام أسد الدين شيركوه بقتل أحد قادة القلعة وذلك من أجل إمرأةجاءت تشكو من أحد القادة الذي اَذاها في شرفها واعتدى عليها فما كان من أسد الدين إلى أن إنتصر للشرف والمروءة وقتل ذلك القائدوهنا إزداد غضب بهروز وخاصة حين علم أن المدينة ثائرة على الحاكم وأخيه فأرسل إلى نجم الدين يأمره بتسليم القلعة إلى عامل اَخر والخروج مع أهله من تكريت
ويقول الأستاذ قدري قلعجي ص118:<<وكان نجم الدين أيوب قد ألف القلعة وصارت أشبه بوطن له فعظم عليه الخروج منها شريداً طريداً وبينما هو يطيل التفكير في أمره ورسول بهروز لم يبارح مجلسه بعد إذا برسول اَخر يقبل من بيته ويبلغه بأن زوجته
تبشره بأنها قد وضعت غلاماً اسمته (كما اتفقنا):يوسف فتشاءم الرجل وتطير بالوليد الصغير ثم مالبث أن التقفت إلى أخيه وقال له :إني خارج منذ الآن متستراً بجنح الظلام كي لا أشمت بي الناس في وضح النهار .ونهض فنهض أخوه وسار فتبعه وما هي إلى ساعة حتى كنا خارج القلعة مع نسائهما وأولادهما وشيخ نصراني من بغداد كان يكتب لهما وأخذوا يضربون على غير هدى في جوف الليل
ظلت القلعة القافلة الصغيرة تتابع السرى في ليلة داجية من شتاء سنة 532هجري/1137ملادي وفي برية مقفرة ليس فيها أي أسر لإنسان أو حيوان أو نبات
وقد بلغت هذه القافلة بقعة من الأرض لايميزها وسط تلك القفار سوى عدد من أشجارالنخيل وكان الصبح يوشك أن يطلع وأخذت الأشياء تتميز عن بعضها فوقف نجم الدين يفكر وإلى جانبه أخوه وإذا بالوليد ينفجر باكياً على يدي أمه فازداد نجم الدين حنقاً وتطيراً وهم في ثورة غضب أن يبطش به ليريح نفسه من عبئه ويريحه من حياة ليس من يدري أين تقضي بها هذه البداية المخيفة فصرخت الأم باكية متوسلة وهرع نحوه أخوه مهدئاً من روعه وأمسك كاتبه النصراني بيده وهو يقول له بصوت متضرع شفيق
يا مولاي قد رأيت ما حدث عندك من الطيرة والتشاؤم بهذا الصبي واي شيىء له من الذنب؟ وبم استحق ذلك منه؟وهو لاينفع ولايضر ولا يغني شيئاً وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله سبحانه وقدر ما يدريك أن هذا الطفل يكون ملكاً عظيم الصيت جليل المقدار ولعل الله جاعل له شأناً فاستبقه فهو طفل ليس له ذنب ولا يعرف ما أنت فيه من الكدر والغم
فأجاب الأب الحانق :<<واي شأن يكون له؟ألا ترى بأنه نزير شؤم وبؤس؟...ألا ترى في أي يوم جاء ...فما عسى ينتظره من الحياة وما عساني أنتظر منه؟
فقال كاتبه <<رويدك يانجم...!أشفق عليه وعلى نفسك فلعل فيه الخير وأنتم لاتعلمون
وبينما نجم الدين أيوب حائراً لايدري بأي إتجاه يسير : إلى اليمين أو الى اليسار أو يتجه نحو الشمال أو يضرب في البادية نحو الجنوب وإذا بشعاع أمل أضاء ظلمة حيرته وبدد يأسه فقال في نفسه:لماذا لانذهب إلى عماد الدين زنكي؟ وقد جائنا هذا الرجل منذ مدة في ليلة تشبه هذه اليلة بجوها العاصف وظلمتها الداجية وفي حالة تشبه حالتنا الآن بقلقها العنيف وحيرتها الطاغية وكان قد سار بجيشه لمظاهرة السلطان مسعود على الخليفة العباسي المسترشد بالله فانهزم في المعركة التي خاضها وارتد راجعاً إلى الموصل ماراً بتكريت حيث فتحنا له أبواب القلعة وقدمنا له القوارب لينجو هو وجيشه من بطش جيش الخليفة الذي حاصره قرب القلعة ولا ر يب أن عماد الدين يذكر تلك اليد التي أعانته ويعرف تلك الصنيعة وهكذا اتجهت تلك القافلة نحو الموصل
وقد صدق ظن نجم الدين ايوب فما كان يبلغ وأخوه الموصل حتى رحب بهما عماد الدين زنكي ترحيباً عظيماً وأكرم وفادتهما وأجرى عليهما المنح والعطايا وكافأهما على ما فعلا معه من الجميل عند تكريت واقطعهما أرضاً ليعيشا عنده معززين مكرمين
عاش نجم الدين وأخوه ومعهما المولود صلاح الدين في رعاية عماد الدين بأحسن مظاهر العز والأكرام وأسند إليهما أعمال الجيش فخدما عماد الدين وأخلصا له الخدمة وأحرز إنتصارات عديدة زادت في حبه لهما وتقديره إياهما فلما سقطت بعلبك في يده سنة 534هجري/1139ملادي عهد بإدارتهما إلى نجم الدين ولا شك أن هذا الاختيار
هو برهان قاطع على ثقة عماد الدين بنجم الدين أيوب وحسن الأعتماد عليه
لقد كان عمر صلاح الدين سنتين عندما تولى والده حكم بعلبك حيث قضى فيها أجمل سنين طفولته وأسعدها ومكث فيها مع أسرته حتى سن التاسعة حيث قتل عماد الدين زكي سنة 541هجري/1146ميلادي وتولى إبنه نور الدين الحكم مكانه وعلى أثر ذلك أرسل حاكم دمشق مجير الدين أبقى إلى نجم الدين أيوب يطلب منه تسليم بعلبك وهنا أدرك نجم الدين أن هذه المدينة لابد أن تسقط في أيدي الدمشقيين لضعف حاميتها فسلمهم إياها مقابل تعهدهم بإقطاعه عشر قرى في جوار دمشق وانتقل مع أسرته إلى دمشق تاركاً بعلبك والتحق بخدمة أيبك أكبر أولاد توغتكين ومازال هذا بقربه منه ويجازيه على خدماته حتى جعله قائد قادة الشام
أما أسد الدين شيركوه فقد إتصل بخدمة صاحب حلب نور الدين محمود زنكي واصبح من أخص أصحابه ومقدماً على سائر أمرائه لما عرف عن شهامته وشجاعته ولم يزل حاله يكبر عنده إلى أن أقطعه مدينتي حمص والرحبة وأسند إليه قيادة الجند
وهكذا أصبح كل من نجم الدين أيوب قائداً معززاً مكرماً على الأمراء في دمشق كما أصبح أسد الدين قائداً على الأمراء في حلب
ولما توفي معين الدين أنر القيم القيم بتدبير مملكة دمشق سنة 544هجري/1149ميلادي أصبح نجم الدين أيوب صاحب الكلمة فيها لأن حاكمها مجيرالدين أبق كان ضعيفاً
قبل النفوز يستنجد حيناً بالصليبيين وحيناً أخر يطمعهم في الاستلاء عليها فخاف نور الدين من سقوط دمشق في أيدي الصليبيين فوجه إليه في أواخر سنة 549هجري/1154ميلادي جيشاً بقيادة أسد الدين شيركوه وحاصرها
ويقول الأستاذ قلعجي (ص121):ووقف أخوه نجم الدين أيوب على رأس جيش توغتكين مدافعاً عنها وحار الأخوان فيما يصنعان وكانت تساور نجم الدين عواطف قوية متضاربة فهو لايريد أن يحارب أخاه ويخشى أن يصيبه من هذه الحرب سوء ثم إن الجيش الذي يقوده أخوه هو جيش نورالدين بن عماد الدين زنكي الذي أحسن إليه لما هاجر من تكريت وأكرم مثواه وهو إلى ذلك على يقين من أن جيش دمشق أضعف من أن يثبت في وجه المهاجم إلى النهاية
مالبث أن عمد إلى مفاوضة أخيه على إبلرام الصلح بينهما واستمرت هذه المفاوضات ستة أيام انتهت بتسليم دمشق وانتقالها إلى يد أقوى أمير في سوريا اَنذاك وذلك سنة549هجري/1154ميلادي
فما كان من نور الدين زنكي إلا أن كافأ نجم الدين على هذا المسعى الحسن وعينه حاكماً على دمشق وقربه من مجلسه حتى أصبح من أخص المقربين إليه ونال عنده ما لم ينله أي شخص اَخر
فقد روى إبن واصل عن ذلك فقال <<كان نور الدين إذا جلس لايجلس أحد إلا بإذن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي رحمه الله وأما من عداه كأسد الدين شيركوه ومجد الدين إبن الداية وغيرهما فإنهما كانوا يقفون بين يديه إلى أن يتقدم إليهم بالقعود...وكان مجلسه لا يذكر فيه إلا العلم والدين وأحوال الصالحين والمشورة في أمر الجهاد وقصد بلاعدو
ظهور شخصية صلاح الدين
*************************************************
أما صلاح الدين فقد قضى في دمشق فترة تعد من أفضل أيام حياته حيث ظهرت شخصيته الفذة فكان محل إحترام وتقدير ومكانة رفيعة وقد ظهر أمام الجميع بمظهر الشاب الهادىء المهذب المتدين المتقد غيرة الإسلام والمسلمين بما طبع في نفسه من أخلاق والده وشيم نور الدين
وقد أسندت إليه في عهد نور الدين رئاسة شرطة دمشق وقد قام بهذا المنصب أحسن قيام واستطاع أن يطهر دمشق من عبس اللصوص ومن شر المفسدين فأعاد الأمن والأستقرار إلى ربوع الشام وباتت الناس في مأمن على نفوسهم وأموالهم وأخذوا ينعمون بالحياة الهادئة الكريمة المطمئنة ...وقد عبر الشاعر حسان بن نمير المعروف <<بعرقلة>>الدمشقي عن فرحته بتولي صلاح الدين يوسف رئاسة الشرطة في بلده حيث قال:ه
<<رويدكم يالصوص الشام فإني لكم ناصح في المقال
أتاكم سمي النبي الكريم يوسف رب الحجا والجمال
فذاك يقطع ايدي النساء وهذا يقطع أيدي الرجال...>>ه
وقد نشأ صلاح الدين في السنين الأولى من طفولته وفي العقد الثاني والثالث من شبابه علي الفضائل الكريمة والخصال الحميدة واكتسب من مجالسته لأمراء
ومن مصاحبته للقادة العادات الأصيلة والمهارة الحربية والغير إسلامية والشجاعة المادية والأدبية
وبما أنه قد قضى طفولته الأولى في بعلبك كما مر معنا فقد كان من الطبيعي أن يتردد على مكاتب العلم والمعرفة ليتعلم منها مهارة القراءة والكتابة والصرف والنحو ويحفظ القراَن الكريم
يقول صاحب كتاب طبقات الشافعية:ه
<<وسمع صلاح الدين الحديث من الحافظ أبي طاهر السلفي وأبي طاهر بن عوف والشيخ قطب الدين النيسابوري وعبدالله بن بري النحوي وجماعة >>واستطرد يقول :<<وكان صلاح الدين فقيهاً يقال <<إنه كان يحفظ القراَن الكريم والتنبيه في الفقه والحماسة في الشعر>>ه
والذي أجمع عليه المؤرخون أن العلماء كانوا يفدون إلى دمشق أيام نور الدين من الشرق والغرب من سمرقند ومن قرطبة ليعلموا ويتعلموا في مساجدها ومدارسها وقد إستمع صلاح الدين إلى أكثرهم وكان يحضرمجالس الأدب والشعر والظرف وحلقات جامع الأموي يستمع إلى المحاضرات (عبدالله بن أبي عصرون)الذي أحضره نور الدين وابتنى له مدارس في دمشق وأمهات مدن الشام ليدرس فيها وينشر العلم في البلاد وقد بلغ هذا العالم من المكانة والمنزلة أنه وصل إلى مركز القاضي قضاة الجزيرة وقد تحدثت التاريخ عن إخلاص صلاح الدين لهذا الشيخ بأن قربه من مجلسه عندما فقد بصره وجعله من أخص خواصه
كان صلاح الدين يهوى التغني بالطبيعة فتراه في مغاني فيحاء بساتينها بين بعلبك ودمشق متمتعاً برغد العيش قاصداً فلواتها وسهولها الممتدة حتى تخوم البادية العربية حيث مرن على ركوب الخير ولعب الكرة فقد تعلم الفروسية وأحسن الرمي وبرع في الصيد وتدرب على الأعمال الحربية وأتقن الفنون العسكرية حتى اكتملت له تلك الشخصية الفذة وثبتت رجولته وتوافرت فيه الصفات العربية الفاضلة :من شجاعة وشهامة ونبل ومروءة وتسامح وفداء وإقدام وحزم وتمسك بالرسالة الأسلامية والسعي لنشرها...ه
وعرف عنه أنه عشق دمشق عشقًا شديدًا، وتلقى علومه فيها، وبرع في دراساته، حتى قال عنه بعض معاصريه أنه كان عالمًا بالهندسة الإقليدية والرياضيات المجسطية وعلوم الحساب والشريعة الإسلامية، وتنص بعض المصادر أن صلاح الدين كان أكثر شغفًا بالعلوم الدينية والفقه الإسلامي من العلوم العسكرية خلال أيام دراسته. وبالإضافة إلى ذلك، كان صلاح الدين ملمًا بعلم الأنساب والسير الذاتية وتاريخ العرب والشعر، حيث حفظ ديوان الحماسة لأبي تمام عن ظهر قلب، أيضًا أحب الخيول العربية المطهمة، وعرف أنقى سلالاتها دمًا.
أما إبن شداد الذي رافق صلاح الدين فهو يجمل حياته في هذه الحقبة بقوله:<<واتفق لوالده الأنتقال إلى الشام (بعد أن كان حاكماً لبعلبك)وقد خدم والده وتربى تحت حجره وارتضع ثدي محاسن أخلاقه حتى بدت منه إمارات السعادة ولاحت عليه لوائح التقدم والسيادة فقدمه الملك العادل نور الدين زنكي رحمه الله تعالى وعول عليه ونظر إليه وقدمه وخصصه ولم يزل كلما تقدم قدماً تبدو منه أسباب تقضي تقديمه إلى ما هو أعلى منه